كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} مرتبط بما قبله في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} والمعنى واللّه أعلم: افعلوا كل هذه الأشياء من المباشرة والأكل والشرب إلى الفجر، فإذا جاء الفجر فأمسكوا، وأتموا هذا الإمساك إلى الليل.
وقد أخذ الحنفية من هذه الآية لزوم ما شرع فيه من صوم التطوع، ووجه دلالتها عليه عندهم: أن لفظ الصيام عامّ يتناول كلّ صوم، فكل صوم شرع فيه لزمه إتمامه، لأنّ اللّه سبحانه أمر بإتمام الصوم إلى الليل، والأمر للوجوب، فإن لم يتمه لزمه قضاؤه.
وهكذا سبيل جميع النفل عندهم من الصّلاة والحجّ والصّيام يجب بالشّروع فيه، وعليه إعادته مطلقا، سواء كان معذورا أو غير معذور، وفصّل المالكية فقالوا: إن أبطله فعليه القضاء، وإن كان طرأ عليه ما يفسده فلا قضاء عليه.
وقال الشافعية والحنابلة: إن أفسد ما دخل فيه من تطوّع فلا قضاء عليه إلا في حجّ النفل عند الحنابلة، فيجب إتمامه.
وقد استدل الحنفية بغير هذه الآية، فقالوا: قال اللّه تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} [محمد: 33] والنفل الذي شرع فيه عمل من الأعمال، فوجب عليه عدم إبطاله، فإذا بطل أو أبطله فقد ترك واجبا، ولا تبرأ ذمّته إلا بإعادته، وورد في السنة ما يؤيده، وهو ما روى عبيد اللّه بن عمر، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين، فأهدي إلينا طعام، فأفطرنا، فسألت حفصة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: «اقضيا يوما مكانه».
واستدلّ الشافعية ومن معهم بقوله تعالى: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وبقوله عليه الصلاة السلام: «الصّائم المتطوّع أمير نفسه»، والمسألة خلافية كما ترى، والذي يهمّنا هو: هل في هذه الآية دلالة لأحد من المختلفين أو لا؟ يرى الحنفية أنّ لفظ الصيام يتناول كلّ صوم شرع فيه، وقد أمر بإتمامه، وبإبطاله فات الواجب، ولا يجبر إلا بالإعادة، وكون الآية وردت في صوم الفرض لا يغيّر من عموم اللفظ شيئا.
والذي يظهر أن الآية ليست بصدد بيان وجوب إتمام ما شرع فيه فرضا أو نفلا، بل بصدد تحديد الزمن الذي يحلّ فيه تناول المفطرات، والذي لا يحلّ، فقالت في الأول: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} وقال في الثاني: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أي أنه بعد الفجر لا يحلّ لكم أن تتناولوا شيئا مما أحلّ لكم تناوله ليلا. ولا تعرّض فيها لنفل شرع فيه ثم فسد، ولا لفرض شرع فيه ثم فسد، بل لذلك حكم آخر يستفاد من دليل مستقل.
وقد فهم الحنفية من هذه الآية أيضا أن تبييت النية غير لازم، ووجهه عندهم أن لفظ ثم يفيد التراخي، والإجماع قائم على وجوب الإمساك من الفجر، ووجوب الإمساك من الفجر مدلول عليه بذكر الغاية إلى الْفَجْرِ، فإنّ معناه أن ما كان حلالا قبله يحرم بمجيئه، وذلك بالإمساك من الفجر، فإذا أمسكنا فعلينا الإتمام، والإتمام إنما يكون بقصد، فكأنّ النية التي هي القصد لم تطلب إلا بعد تحقّق الصيام، فكان ذلك دليلا على أنّ النية تكون بعد الصيام، فلا يلزم تبييتها، وهو المطلوب.
وذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ الآية تدلّ على التبييت، وذلك أن معنى {أَتِمُّوا الصِّيامَ} صيّروه تاما من الفجر، وهو لا يكون تاما من الفجر إلا بالنية، وهذا هو الظاهر، لأنّ إتمام الشيء لا يكون إلا لشيء قد شرع فيه، وهو هنا الصوم، وقد علمت أن الصوم لا يكون صوما إلا بالنية، تمييزا للعادة من العبادة، إذ قد يمسك الإنسان عن الأكل حمية، ثم لا يكون صوما، لأنه لم ينو، فإن كان هناك دليل غير الآية فهو الذي يدل على عدم تبييت النية.
وقد عرض المفسرون هنا لأحكام الصائم إذا نسي وأكل ماذا يكون؟ أيلزمه الإتمام، أم له الإفطار إلخ، أو يلزمه القضاء، أم لا؟ وترى أن كل ذلك يجب أن يبحث عنه في غير هذه الآية.
{وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
الاعتكاف في اللغة: اللبث. قال تعالى: {ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وقال الشاعر:
فباتت بنات الليل حولي عكّفا ** عكوف البواكي بينهنّ صريع

ثم زيد عليه في الشرع قيود: منها: العكوف في المسجد، ومنها: ترك الجماع، ومنها: نية التقرب إلى اللّه تعالى، فأما العكوف في المسجد فهو في حق الرجال فقط، وأما النساء فيعكفن في مصلّى البيت دفعا للفتنة، والمسجدية مستفادة من قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} قاله أبو بكر الرازي:
وقد وقع الاختلاف في المسجد الذي يكون فيه الاعتكاف: فقد روى إبراهيم النخعي أن حذيفة قال: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وروي عن علي رضي اللّه عنه: أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ومسجد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال جماعة منهم عبد اللّه بن مسعود، وعائشة، وإبراهيم، وسعيد بن جبير. وأبو جعفر. وعروة بن الزبير: لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة.
فأنت ترى السلف قد أجمعوا على أنّ الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد على ما بينهم من الاختلاف في تعيين المسجد الذي يصحّ فيه الاعتكاف.
ولم يختلف فقهاء الأمصار في جواز الاعتكاف في المساجد التي تقام فيها الصلوات، وظاهر الآية التي معنا عدم التفرقة بين المساجد، إذ قال: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ففهم منها أن الاعتكاف يكون في المساجد، وتعيين أحدها يحتاج إلى الدليل، وكذا تخصيصه بمسجد الجماعة يحتاج إلى الدليل.
وغاية ما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».
أنه يدلّ على تفضيل هذه الثلاثة عما عداها، أو عدم شدّ الرحال إلا إليها، وهل الاعتكاف لا يكون إلا بشدّ الرحال؟ وقد تقدّم القول بأنّ العكوف في المسجد إنما هو في حق الرجال.
وقد اختلف الفقهاء في معتكف النساء فذهب الحنفية وجماعة إلى أنه يكون في مسجد بيتها كما تقدم، وقال الشافعي: المسافر، والعبد، والمرأة يعتكفون حيث شاؤوا. والمدار في إثبات هذا أو غيره على السنة.
وقد اختلف الفقهاء أيضا في المدة التي تلزم في الاعتكاف: فقال أبو حنيفة وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والشافعي: له أن يعتكف يوما أو ما يشاء. وقد اختلفت الرواية عن الحنفية فيمن دخل ونوى الاعتكاف. هل يكون معتكفا أولا؟
في رواية: يكون معتكفا، وله أن يخرج متى شاء بعد أن يكون صائما في مقدار لبثه، وفي الرواية الأخرى: عليه أن يتمّه يوما، هكذا نقله أبو بكر الرازي.
والمعروف عندهم في المتون والكتب أن الاعتكاف ثلاثة أقسام:
مندوب، وهو: يتحقق بمجرد النية.
وسنة، وهو: في العشر الأواخر من رمضان.
وواجب: ولابد فيه من الصوم وهو: المنذور.
وقال مالك في رواية عنه: «لا اعتكاف في أقل من عشرة أيام، وعنه يوم وليلة»، قال أبو بكر الرازي: تقييد مدة الاعتكاف لا يصحّ إلا بتوقيف، أو اتفاق، وهما معدومان هنا، وقد اختلف السلف في أنه هل يلزم فيه الصوم أم لا؟
فروى عطاء عن ابن عباس وعائشة قالوا: المعتكف عليه الصوم. وقال سعيد بن المسيّب عن عائشة: من سنة المعتكف الصوم. وعن عليّ قال: لا اعتكاف إلا بصوم.
وقال آخرون:
يصحّ بغير صوم، روي عن علي، وعبد اللّه، وقتادة.
هذا وقد اتفق العلماء على أنّ المراد من المباشرة في قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الجماع، وتدخل الدواعي في الإباحة من طريق الأولوية.
وكذا اتفقوا هنا على أن المعتكف ممنوع من الجماع ما دام معتكفا.
واختلفوا في أن الدواعي لها حكم الجماع بالنسبة للمعتكف، فتكون حراما عليه، وتفسد الاعتكاف، أو ليس لها هذا الحكم؟
قال الشافعية ومن معهم بالأول، وذهب الحنفية إلى الثاني.
وقال الشافعية: إنّ الآية تشهد لنا، وذلك أن المباشرة حقيقة في وضع البشرة على البشرة، فيعمّ كل ما يتحقق فيه هذا المعنى، ولا يخرج عنه شيء إلا بدليل، وقد قام الدليل في قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} من سبب النزول ومن قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ولم يقم الدليل هنا، فوجب أن يبقى اللفظ على عمومه، ومن هنا نقل ابن القاسم عن مالك أنه إن قبّل امرأته فسد اعتكافه، وقال المزني عن الشافعي: إن باشر فسد اعتكافه.
وأما الحنفية فرأوا أن الآية الأولى قد أريد منها المباشرة بالجماع اتفاقا، والثانية ذكرت المباشرة أيضا، فيحتمل أن يكون المراد بها غير ما أريد بالأولى، ويحتمل أن يكون المراد ما هو أعمّ، فكان مجملا، وقد جاء عمل الصحابة مؤيدا لفهم معنى الجماع فحسب. نقل ذلك عن ابن عباس وغيره.
وقد روي عن الزهري، عن عروة، أن عائشة كانت ترجّل رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو معتكف.
فكانت لا محالة تمسّ بدنه، فدلّ ذلك على أن المباشرة المجردة عن الشهوة لا تفسد الاعتكاف، ومن هنا أخذ الحنفية أنه إن باشر بغير جماع لا يفسد اعتكافه إلا إذا أنزل، وإن فعل بشهوة ولم ينزل فقد أساء.
وهم يرون أيضا أنّ المباشرة الخالية عن الجماع لا تمنع من الصوم، فكذا لا تمنع الاعتكاف، هذا وقد ذكر المفسرون هنا أحكاما تتعلّق بالاعتكاف لا نرى لها تعلقا بالآية، فلم نشأ ذكرها.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
حدّ الشيء: مقطعه ومنتهاه. وحدّ الدار: ما يمنع غيرها من الدخول فيها.
وحدود اللّه: محدوداته ومقدّراته التي قدّرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة.
وقد استشكل قوله بعد ذلك: {فَلا تَقْرَبُوها} لأن الأشياء التي ترجع إليها الإشارة في قوله: {تِلْكَ} بعضها مباح، وبعضها محظور، فكيف جمعها في قوله: {فَلا تَقْرَبُوها}؟
قيل في الجواب: المراد: لا تتعرّضوا لها بالتغيير، وقيل في الجواب: إنّ من كان في طاعة اللّه وعمل بشرائعه فهو متصرّف في حيّز الحق، فنهي عن أن يتعدّاه، لأنّ من تعدّاه وقع في حيز الضلال، ثم بولغ في ذلك. فنهي أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق وحيز الضلال، لئلا يداني الباطل فيقع فيه، فطلب منه أن يكون بعيدا عن الطرف، فهو على حد قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى اللّه محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».
{كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي مثل هذا البيان الشافي يبيّن اللّه آياته ويوضحها ليتقي الناس الوقوع في خلافها، أو ليتقوا اللّه فيعملوا على حسب البيان الذي جاءهم.
قال اللّه تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.
الباطل: الزائل الذاهب، والمراد منه غير وجه الحق.
المعنى: لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير وجه مشروع.
وأكل المال بالباطل ينتظم وجهين:
أحدهما: أخذه على وجه الظلم والسرقة والغصب، وما جرى مجراه. والآخر:
أخذه من جهة محظورة كالقمار وأجر الغناء، وسائر الوجوه التي حرّمها الشارع.
وقد انتظمت الآية تحريم كلّ هذه الوجوه، وهي كلّها داخلة تحت قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}.
وقد كرّر اللّه هذا النهي في مواضع من القرآن، فقال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً} [النساء: 29]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْمًا} [النساء: 10] إلخ.
وليس المراد النهي عن خصوص الأكل، لأنّ غير الأكل من التصرفات كالأكل في هذا، ولكن لمّا كان المقصود الأعظم من المال هو الأكل ووقع التعارف فيمن ينفق ماله أنه أكله، فمن ثمّ عبّر اللّه عنه بالأكل.
وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ، الإدلاء مأخوذ من أدلى الدلو إذا أرسلها في البئر للاستسقاء. قال اللّه تعالى: {فَأَدْلى دَلْوَهُ} [يوسف: 19] ثمّ جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء. ومنه قيل للمحتج أدلى بحجته، كأنّه أرسلها ليحصل على مطلوبه، كمن ألقى دلوه في البئر.
والذي هنا من هذا المعنى، كأنه قيل: ولا تلقوا بالأموال إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون. وهو يشمل وجهين:
تقديم الأموال رشوة للحكام، ليقضوا لهم بأكل أموال الناس بالإثم، ورفع القضايا للحاكم ارتكانا على الحجة الداحضة، وذرابة اللسان، وشهادة الزور، وما شاكل ذلك من وجوه الباطل، وكل ذلك محرم بالآية الكريمة. فإنها تقضي بتحريم كل ما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له.
وفي المعنى الثاني- وهو رفع الأموال للحاكم ليقضي فيها ارتكانا على الحجة الداحضة- جاء في الحديث الذي روي عن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت: كنت عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّما أقضي بينكما برأيي فيما لم ينزل عليّ فيه، فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما، فإنما يقتطع قطعة من النار..» وجاء في معنى هذا الحديث الآخر «إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ أحدكم يكون ألحن بحجّته..» الحديث.
وقد اتفقت الأئمة على هذا الحكم فيمن ادّعى حقا في يد رجل وأقام بيّنة فقضي له بها، حيث قالوا: إنه لا يجوز له أخذه، وإنّ حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه.
واختلفوا في حكم الحاكم بعقد أو فسخ عقد، بشهادة شهود إذا علم المحكوم له أنهم شهود زور. فقال أبو حنيفة: إذا حكم الحاكم ببينة بعقد، أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ، فهو نافذ، ويكون كعقد عقداه ابتداء بينهما، وإن كان الشهود شهود زور.
وقال أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، وغيرهم: ينفذ الحكم ظاهرا، ولا ينفذ باطنا، على معنى أنّ حكم الحاكم يمضي ظاهرا، ولا يسع من يعلم بطلانه أن يعمل به، وقال أبو يوسف: إذا قضى الحاكم بفرقة على هذا الوجه بين الزوجين لم يحل.
وقد قضى علي كرم اللّه وجهه بما يوافق رأي أبي حنيفة، حيث جاءه رجل ادعى زواجا على امرأة وهي تنكر، وجاء بشاهدين، فقالت: إني لم أتزوجه، فقال لها زوّجك الشاهدان، وكذلك قصة لعان هلال بن أميّة مع امرأته، وقضى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالفرقة بينهما، وكان ذلك بعد أن قال: «إن جاء الولد على صفة كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على صفة كذا، فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به على الصفة المكروهة فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لو لا ما مضى من كتاب اللّه لكان لي ولها شأن».
واستيفاء الكلام على أدلة الطرفين وترجيح الراجح منها يطلب في موضع غير هذا.
والآية صريحة في أنّ الإثم على من أكل وهو يعلم أنه ظالم في الأكل، وأما غيره فلا إثم عليه.
قال اللّه تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}.
الهلال هو هذا الكوكب المخصوص المضيء ليلا، وإنما يسمّى هلالا لظهوره بعد خفائه، ومنه الإهلال بالحج لظهور الصوت بالتلبية، وقيل: بل إنما سمي هلالا، لأنّ الإهلال رفع الصوت، والناس عند ظهور الهلال يرفعون أصواتهم بذكره عند رؤيته.
وقد اختلف أهل اللغة في الوقت الذي يسمّى فيه هلالا، فمنهم من قال: يسمّى هلالا لليلتين من الشهر، ومنهم من قال: لثلاث، ثم يسمّى قمرا، ومنهم من قال:
يسمّى هلالا حتى يبهر ضوؤه سواد الليل، وذلك في الليلة السابعة.
روي في سبب نزول هذه الآية، أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم- وكانا من الأنصار- قالا: يا رسول اللّه، ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس، فنزلت هذه الآية.
ويروى أيضا عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.
ولم يذكر في الآية تحديد المسئول عنه في الأهلة. أهو حقائقها، أم أحوالها؟
لكن الجواب ووروده بقوله: {هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} مشعر بأن السؤال كان عن الحكمة في تغيّرها، وقد جاء الخبر بأن السؤال كان عن هذا، فالخبر والقرآن متطابقان، وعلى هذا فلا مفارقة بين السؤال والجواب.
مَواقِيتُ جمع ميقات بمعنى الوقت. كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم:
الميقات منتهى الوقت، قال اللّه تعالى: {فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142].
والهلال ميقات الشهر. ومواضع الإحرام مواقيت، لأنها التي ينتهي عندها الحلّ.
وقد قال أبو بكر الرازي: إنّ هذه الآية تدل على جواز الإحرام بالحج في جميع شهور السنة، لأنّ الأهلة لفظ عامّ. وقد بيّن اللّه أنها مواقيت للحج، وهو استدلال غير ظاهر. لأننا قد بينّا أنّ المعنى أن الحكمة في تغيّر الأهلة بالزيادة والنقص أن يؤقت الناس بها في معاملاتهم وعباداتهم وحجهم، وليس الكلام في بيان ما يكون في الشهر من العبادات وغيرها.
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
قيل: كان الناس من الأنصار إذا أهلّوا بالعمرة التزموا ألا يحول بينهم وبين السماء شيء، ويتحرّون في ذلك. حتى إن من أهلّ بالعمرة وبدت له حاجة في بيته لا يدخل إلى البيت من الباب خشية أن يحول السقف بين السماء وبينه. فنزلت هذه الآية. وقيل غير ذلك.
وقيل: إنه مثل ضربه اللّه تعالى لهم بأن يأتوا البر من وجهه الذي أمر اللّه به، وليس هناك ما يمنع من إرادة الكل، فتكون الآية دالّة على أن إتيان البيوت من ظهورها ليس قربة إلى اللّه تعالى ولا هو من شرعه ولا ندب إليه، ويكون مع ذلك مثلا أرشدنا به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي أمرنا اللّه تعالى: {وَلكِنَّ الْبِرَّ} برّ من اتقى محارم اللّه {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه رجاء أن يكون في ذلك فلاح.
قال اللّه تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)} [الآيات 190- 195].
قال اللّه تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.
وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرام إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا، فهي متصلة بما قبلها، لأنّ الآية السابقة بيّنت أنّ الأهلة مواقيت للنّاس والحج، والحج في أشهر هلالية مخصوصة، كان القتال فيها محرّما في الجاهلية.
ولم تختلف الأمة في أنّ القتال لم يكن مشروعا قبل الهجرة، بل كان محظورا بقوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} [فصلت: 34، 35] وقوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] وقوله: {وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)} [المائدة: 92] وقوله: {وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} [النساء: 77] وقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22] وقوله: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] وقوله: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14].
فلما تحولوا للمدينة نسخ هذا كله بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29].
وقد اختلف السلف في أول آية نزلت في الإذن بالقتال. فروي عن الربيع بن أنس وغيره أن أول آية نزلت في قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وروي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه أنّ أول آية نزلت في القتال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40].
وقد أخرج الواحدي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وذلك أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما صدّ عن البيت، ثم صالحه المشركون، على أن يرجع عامه ثم يأتي القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فلما كان العام المقبل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم، وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم، فأنزل اللّه هذه الآية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ الآية.
المعنى: يا أيها المؤمنون الذين يخافون أن يمنعهم مشركو مكة عن زيارة بيت اللّه والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد، ويكرهون أن يدافعوا عن أنفسهم في الحرم وفي الشهر الحرام: اعلموا أنني قد أذنت لكم في القتال، وأنتم إذ تقاتلونهم فإنما تفعلون ذلك في سبيل اللّه للتمكّن من عبادته، وفوق ذلك فإنما تفعلون هذا مع من نكثوا عهد الصلح، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا بالقتال فتبدؤوهم، ولا في القتال فتقتلوا من لم يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى الذين لا يستطيعون قتالا، أو من ألقى إليكم السلم وكفّ عن حربكم.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
الثقف: الأخذ والإدراك والظفر، يقال: ثقفه: أخذه أو وجده أو ظفر به، أو أدركه.
والمعنى: اقتلوا هؤلاء الذين يقاتلونكم في أي مكان تمكّنتم منهم، ولا يصدنّكم عنهم أنهم في أرض الحرم.
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أجلوهم عن مكة كما أجلوكم عنها، فقد كان المشركون يتربّصون بالمؤمنين الدوائر، حتى اضطرّ هؤلاء أن يخرجوا فرارا بأنفسهم ودينهم، ومع ذلك منعوهم من دخول مكة للعبادة. فماذا على المؤمنين الذين أوذوا في سبيل اللّه وأخرجوا من ديارهم إذا قابلوا العدوان بمثله؟ وهل يعيب أحد الدفاع عن النفس؟ كلا.
{وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ} [البقرة: 251].
{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} الفتنة في الأصل مصدر فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما في النار ليستخرج منهما الزغل، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار، وهذا مبالغة في التحريض على المقاتلة، أي أنّ ما تفعلونه معهم من القتل في الحرم أقلّ مما يتصفون به من الفتنة.
ثم قيل: إن الفتنة هنا الكفر، وقيل: المراد بها ما كان يقع من المشركين من صنوف الإيذاء والإعنات، التي جعلت المؤمنين يفرّون بدينهم، ولولا ذلك لما أمكنهم البقاء على الدين مع الإقامة على الاضطهاد والعسف، وتقرير الآية التي معنا على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في آيات الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40].
ومن فسّر الفتنة بالشرك ادّعى أن قوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} الآية ناسخ لما تقرّر في الآية الأولى من قتال المقاتلين فقط. ثم احتاج بعد هذا إلى أن يقول: وهذه الآية أيضا منسوخة بقوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} وهكذا ادعوا في هذه الآية نسخا متتاليا.
ولما كنا نرى أنه لا حاجة بنا في فهم هذه الآيات إلى القول بالنسخ، ولمّا لم يكن يعرف أن هذه الآيات مقترنة في النزول، أو مفصولة عن بعضها، وكنا نرى أنها جميعها إلى قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ملتئمة مع ما ذكرنا في سبب النزول، وكان القول بالنسخ على هذا الوجه قد يؤدي إلى القول بالنسخ قبل التمكن، وهو غير جائز عند البعض، كان من رأينا أنّ الأولى الذهاب إلى القول بعدم النسخ.
على أنه إذا كان الداعي إلى القول بالنسخ هو عموم شرع القتال بالنظر للمشركين فنحن نجده في قوله تعالى: {وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقوله: {قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] فليس هناك ما يدعو إلى تفكيك آيات هي متصلة ببعضها تمام الاتصال بغير موجب.
على أن الفخر الرازي يرى أن آية وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ مع تسليم أنها في وجوب قتال المقاتلين فقط لا يلزم أن تكون منسوخة بقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} بفرض عموم هذه، لأنّ غاية ما يلزم أن يكون قوله: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} دالا على قتال المقاتلين فحسب، من غير تعرّض لقتال غيرهم، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} يفيد تعميم الحكم بعد التخصيص، وذكر العامّ بعد الخاصّ يثبت زيادة حكم على حكم الخاصّ من غير أن ينسخه.
وأما قوله: {وَلا تَعْتَدُوا} فهذا يحتمل أن يكون معناه: ولا تبدءوا في الحرم، أو لا تعتدوا بقتال من وادعوكم، وألقوا إليكم السلم، وكان بينكم وبينهم عهد.
إلى أن قال: وتحقيق القول: إنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} زاد في التكليف، فأمر بالجهاد معهم، سواء أقاتلوا أو لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
{وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}.
روي عن مقاتل أنّ آية: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} منسوخة بقوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} ثم تلك منسوخة أيضا بقوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}.
وقال الفخر الرازي: وهو ضعيف، أما أن قوله تعالى: {وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ} منسوخ فقد تقدم إبطاله. وأما قوله: إن هذه الآية منسوخة بقوله: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} فهو تخصيص لا نسخ. وأما قوله: إنّ قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} منسوخ بقوله: {وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو خطأ أيضا، لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم باق لم ينسخ، فثبت أن قوله ضعيف، قال: ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متتاليات تكون كل واحدة منهما ناسخة للأخرى.
وقد تمسّك الحنفية بهذه الآية في عدم قتل الكافر اللاجئ للحرم ما دام لم يقاتل في الحرم.
ويحتجّ بعمومها فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل، لأن الآية لم تفرّق بين من قتل ومن لم يقتل في حظر قتل الجميع، فلزم بمضمون الآية ألا نقتل من وجدناه في الحرم، سواء كان قاتلا أو غير قاتل، إلا إذا قتل في الحرم، فإنه يقتل بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.